منذ مطلع الشهر المنصرم، وأنا أتسمّر كغيري مساء كل يوم جمعة أمام شاشة التلفاز، لمشاهدة النسخة العربية من برنامج ” ذا فويس ” أحلى صوت عبر قناة ام بى سى، حيث كان واضحا أن القناة العريقة أوفت بوعود قطعتها على نفسها، بأن تقدم برنامجا يلامس رغبات المشاهدين ويحترم عقولهم أكثر من سواه من برامج التوك شو، حيث مثّل البرنامج إنقلابا على كل البرامج الأخرى في قائمة طويلة، لم تعتمد بالمطلق على الصوت، كما هو في ذا فويس لكشف المواهب الغنائية عبر العالم العربي.
لجنة تحكيم المواهب في البرنامج ضمت مجموعة فريدة من الفنانين العرب وعلى رأسهم قيصر الأغنية العربية كاظم الساهر(والذي يعد من أهم الفنانين الذين جسّروا بين زمن العمالقة، وزمن الفن الحديث من خلال قصائده المغناة للشاعر الكبير نزار قباني من جهة، وصوته العميق القوي الشجي الحنون في آن معا من جهة أخرى)، أمر يُحسب لصالح القناة الذكية التي أرادت أن تدشن مرحلة جديدة في تاريخ البرامج الترفيهية، وإلى جانب الساهر كانت الفنانة مرهفة الإحساس (فاكهة البرنامج) شرين عبدالوهاب، صاحبة الضحكة الساحرة، والتي إمتازت بأغانيها العاطفية الرومنسية التي تدغدغ العواطف وتبث الدفيء في القلوب وتنشر الحب، كذلك الفنان صابرالرباعي صاحب الإبتسامه والضحكة في البرنامج، وعاصي الحلاني الذي تميز بلونه اللبناني والفلكلوري.
المختلف في البرنامج، أنه ابتعد إلى حد كبير وأكثر من غيره عن أي عوامل ومؤثرات جانبية قد تساهم في التأثير على قرار لجنة التحكيم بشان المرشحين والمتقدمين، فلا المظهر ولا اللهجة ولا الشكل ولا اللون يمثل أي منها فارقا ولو ضئيلا في قرار الحكام خاصة في المرحلة الأولى، لأن كل ما يسمعه الحكام قبل اتخاذ القرار بشان كل متسابق او متسابقة، بل إبداء الرغبة في ضم المتسابق إلى هذا الفريق أو ذاك، هو صوت أقدام المتسابق او المتسابقة أثناء الدخول واعتلاء خشبة المسرح!! حتى أنه يتم التساؤل فيما بين الحكّام حول المتسابق(…هو…أم هي…)!!! لماذا؟ لأن المقاعد الأربعة للجنة التحكيم وعلى غير ما جرت العادة، موجهة جميعها إلى الجمهور وليس إلى المتسابقين !!.
وما أن تنطلق الموسيقى ويبدأ الغناء من قبل كل متسابق لوقت موحد محدد، حتى يحاول كل عضو في لجنة التحكيم(ومقاعدهم موجهة تجاه الجمهور) إتخاذ قرار بشأن المتسابق بناء على عدة معايير من بين أهمها( خامة الصوت، ومراقبة مخارج الحروف، وفيما إذا ما خرج المتسابق عن النوته؟ والعُرب، والإقفال، مع الإهتمام بقرار او جواب الصوت…إلخ) فإذا ما تيقن عضو أو أكثر من أعضاء لجنة التحكيم، وبأذنهم الموسيقية المتشبعة للفن وأصوله أن المتسابق يملك خامة صوتية متميزة تناسبه، يسارع أي منهم بالضغط على زر مخصص لهذه الغاية، للإعلان عن رغبتهم في إنضمام صاحب أو صاحبة الصوت لفريق ذات الفنان، فيلتف المقعد على الفور لمواجهة المتسابق، لتتم متابعة ما قد يتبقى من أغنيته وجها لوجه. وفيما إذا ما التف أكثر من فنان(بمعنى أبدى أكثر من عضو لجنة تحكيم رغبته بضم المتسابق لفريقه) حينها لا يعود القرار للفنان بضم المتسابق لفريقه، وإنما المتسابق ذاته هو الذي يقرر لأي فريق ينضم!!(وهذا ما يحدث غالبا)، وكأن خبراء الفن العربي بمختلف ألوانه يصبحون تحت رحمة المتسابقين، الذين يقررون بأنفسهم لأي الفرق سينضمون.
وكان واضحا في غير مرة(في المرحلة الأولى) وقبل إتخاذ كل متسابق القرار لأي فريق سينضم، أن كل من عاصي الحلاني وصابر الرباعي وشرين حاولوا التأثير على المتسابق بالإطراء حينا أو بالمديح المبالغ فيه حينا آخر ، وبطريقة لا تخلو من الدعابة، فيما ظهر القيصر أكثر وقارا من غيره، كما كان أكثر صبرا من غيره في إتخاذ القرار تجاه ما يُسمع، فكان ولا زال قيصر الأغنية العربية متزنا راقيا ملتزما حكيما متواضعا في آن معا، الأمر الذي إنعكس جليا في المرحلة الحالية، حيث تشير الكثير من الإستطلاعات الفنية أن فريق كاظم الساهر من أقوى الفرق المتنافسة على لقب أحلى صوت.
كما أن المختلف في هذا البرنامج أيضا، أنه لم يوجه لمتسابقين من الهواة بالمطلق، وإنما لمن يمارسون الفن لسنوات، ممن لديهم خبرة مقبولة في المجال الفني(ناس عارفين إيش بدهم، ممن سبق وأن وقفوا على خشبة المسرح )، إذ أنه وبعد بحث مضني ومسوحات كثيرة، والتنبيش لأشهر عديدة سبقت البرنامج عبر المسارح ودور العرض واليوتيوب وبعض الموسيقيين، تمت دعوة هؤلاء للمشاركة بالبرنامج.
أما المرحلة الثانية الحالية(مرحلة المباشر) فهناك مزاوجة بين رأي الجمهور المشاهد وبين مدرب كل فريق، بخصوص من يبقى ومن يغادر، وهي طريقة تبدو مقبولة ومنطقية، لأن إنفراد جمهور المشاهدين بمن يربح أو يخسر بالذات قد تؤثر عليه الجنسية أو اللون أو الجنس، إلى جانب ضعف المعرفة الفنية المتخصصة، رغم ذلك فإن إبقاء رأي الجمهور حاسما جزئيا من ضرورات تسويق وتغطية نفقات البرنامج، التي لا بد لنا أن نتفهمها حين نتحدث عن ميزانية ضخمة لإنتاج مثل هكذا برامج، رغم يقيني بان إبقاء الأمر بيد الحكم وحده على الأغلب ستبقى أكثر موضوعية، نظرا لخبرته وأذنه الموسيقية الثاقبة.
بكل حال لا بد لنا أن نثني على البرنامج ، والطريقة التي تبناها مما قلب المعايير المقاييس رأسا على عقب”خاصة في المرحلة الأولى”( والتي لا زال أعضاء لجنة التحكيم في شوق إليها)، ورفعت بلا رجعة مستوى البرامج المخصصة للتسابق على الغناء، ليبدو البرنامج أكثر احتراما لعقول وذكاء الناس. وهذا ما تتعطش له الشعوب العربية، وهكذا نريد أن يكون الترفيه العربي، فما عادت تنطلي علينا الخديعة، وما عاد ينفع(الضحك على ذقونا) ولا مجال لأي أمر قد يؤثر في قرارنا، ويجير صوتنا لشخص أقل مقدرة من غيره على تقديم ما هو مميز، لتأثرنا بمحسنات أو نكهات أو تأثيرات خارجية أو حتى جغرافية .
إن أحلى صوت يخلو من كل ذلك، فلا يوجد به أي محاولة تجميلية، إنها الموضوعية المطلقة، حيث تسقط كل الإعتبارات الأخرى، والصوت فقط هو الذي يفوز؟ لذا فهو نقطة تحول في تاريخ البرامج المخصصة للتسابق على الغناء في العالم العربي، مرحلة واعدة تبشر بحقبة جديدة ثرية أكثر عمقا وموضوعية، بعيدا عن الإستخفاف والإسفاف، نقطة اللاعودة للوراء أو الرجوع للوراء من قبل القنوات التي تحترم المشاهد، إلا أن كانت هنالك قنوات تستخف بعقل المشاهد ولا تحسب له أي حساب، ويؤسفني أن ذلك ما بدى جليا في برنامج(صوت الحياة) على قناة الحياة، فنعم هو جو فني لكنه جو فكاهي!! ويأتي على حساب حقوق الفرد والإنسان، وإستغلال رغبة الناس بالشهرة!! برنامج هدفه إضحاك الناس لا إطرابهم من خلال إسقاط المتسابق الخاسر في حفرة حقيقية!! وعلى الرغم من أن أعضاء لجنة التحكيم من ذوي الخبرة، وممن يشهد الوطن العربي بالكفاءة العالية لديهم، إلا أن طريقة إسقاط المتسابق في الحفرة، أو وضع اليد على كتف المتسابق الخاسر(أثناء الغناء الجماعي) بعد الإقتراب منه، طريقة مبتذلة لم تظلم المشاهد أو المتسابق فحسب، بل ظلمت أعضاء لجنة التحكيم أيضا. إقرا أيضا
Comments are closed.