تابعت مثل كثيرين غيري على أرض المحروسة تلك الزيارة الإستعراضية التي قام بها أحد المحافظين الى واحدة من الوحدات الصحية المنتشرة في محافظته مصطحبا معه عدد من الكاميرات والصحفيين في نية مبيتة لإستعراض كل قدراته التفتيشية والإدارية آملا في نيل إعجاب رؤساؤه ربما لترقيته لمنصب أعلى كوزير أوخلافه. لم يقف المحافظ منذ دخوله الى الوحدة ليسأل عن موظفي الوحدة أو عمالها أو المسئولين عن الأمن بها أو حتى للسؤال عن النواقص بها من أدوية أو أجهزة أو مستلزمات ولكنه توجه مباشرة الى إحدى غرف الكشف لأداء دوره المرسوم مسبقا مقتحما إياها على الرغم من وجود مريض أو مريضة بالداخل منتهكا حرمة غرفة الكشف التي يعرفها كل الناس ومعتديا على خصوصية المريض الموجود بها. لم يكتف المحافظ بذلك بل قام بتوجيه نظراته النارية الى الطبيب الشاب الذي شاء قدره أن يكون في تلك الغرفة يومها والذي بادر بالوقوف إحتراما لمن دخل عليه بصحبة الكاميرات واللواءات ومد يده للسلام على المحافظ الذي بدوره تردد في السلام عليه قبل أن يلتقط اليد التي امتدت اليه في سلام فاتر أعقبه سؤال تقليدي عن أحوال العمل. مع إستمرار الكلام مع المحافظ قام الطبيب الشاب بوضع يديه في جيبي البالطو الأبيض الذي يرتديه في حركة عفوية تلقائيه ليفاجأ بالمحافظ يأمره في لهجة لاتخلو من صلف وعنطزه كما اطلق عليها الاعلامي مفيد فوزي بعد ذلك في إحدى القنوات الفضائية. إرتبك الطبيب قليلا قبل أن يخرج يده من جيبه وعلى وجهه علامات التعجب ليتركه المحافظ بعد ذلك ليمارس هوايته في إحدى غرف الكشف الأخرى والتي لم تنقل أحداثها الكاميرات.
يبدو أن من متطلبات إختيار الوزراء والمحافظين في عصرنا الحالي هو الإحساس بالعظمة الكاذبة والتعالي على مرؤسيه والبعد عن متطلبات المنصب السياسي من اللياقة والدبلوماسية والذوق العام لذلك نجد أن ماحدث من هذا المحافظ يتكرر بحذافيره يوميا من المحافظين والوزراء في كل القطاعات وقليلا مايسعدنا الحظ لنشاهده في بث مباشر على شاشات الفضائيات أو على صفحات التواصل الاجتماعي. ربما من القسوة أن نحمل المحافظ تبعات ما إعتاد عليه طوال عمره من غرور وتعالي بصفته واحد من شعب الله المختار الذي يحكم هذا البلد منذ عشرات السنوات والذي يقتصر إختيار معظم المحافظين فيه على اللواءات السابقين والقضاة وأساتذة الجامعات بدون أي مشاركة تذكر لأي فئات أخرى مهما بلغت كفائتها أو خبرتها في العمل العام أم المدني ولكن من الواجب علينا أن نوضح له بعض المعلومات التي ربما قد غابت عنه عند لقائه بالطبيب الشاب.
ذلك الطبيب الذي تنظر له بإستعلاء هو من أوائل الثانوية العامة منذ عدة سنوات مضت بمجموع لم يستطع أكثر من 2% من الطلاب الحصول عليه ليدخل كلية الطب الذي ستظل مطمح لكل الاجيال الحالية والقادمة برغم مايسمعونه من سوء أحوال الأطباء وصعوبة مشوارهم. هذا الطبيب قد ذاكر في كليته من الكتب التي تنوء بحمله العصبة أولي القوة وتعلم من العلوم النظرية والعلمية ما لا تعلمه أي كلية أخرى مهما بلغت. ذلك الطبيب لازال ينتظره مشوار طويل من المذاكرة والإمتحانات والشهادات حتى يكون قادرا على وصف الدواء لمرض ما بكفاءه أو إجراء إحدى العمليات الدقيقة بدون مخاطر أو مضاعفات للمريض. وسينتهي به الحال الى أن يكون طبيب بإحدى المستشفيات يتقاضى مالايزيد عن سدس مايتلقاه نظراؤه الخريجين من كليات أخرى وعلى الرغم من ذلك سيكون راضي وسعيد ﻷنه يخفف الألام وينقذ الأرواح.
أما عن علاقة الطبيب بجيب البالطو فهي علاقة تاريخية حميمة لن يعرفها غير الأطباء … فهذا الجيب هة الذي يحتضن الجنيهات القليلة التي يضعها الطبيب فيه لتكفيه طعام وتنقلات طوال فترة وجوده في عمله … ذلك الجيب هو الذي يضع فيه ماستطاع إدخاره من كانيولات وانابيب وقساطر لينقذ بها أحد المرضى الغلابه الذي لا يستطيع شراؤها قبل أن يستولي عليها موظفي وعمال المستشفى لبيعها للجمهور خارج أسوار المستشفى. ذلك الجيب هو الذي يضع فيه يديه ليدفئها في نوباتجيات ليالي الشتاء الطويلة وهو نائم على كرسيه أو على دكة ليكون قريبا من مرضاه. تلك الجيب الذي يملك من العفة والشرف مايمنع دخول أي مال حرام فيه كما يحدث لباقي منكوبي الدولة من رشوة وهدايا ومكافئات ما أنزل الله بها من سلطان.
ربما لهذا السبب لن تجد صورة لطبيب يرتدي فيها هذا البالطو الا وتجده قد وضع يده في جيبه بكل حب وحميميه كمن يضع يده في يد حبيبته ليتصورا صورة الزفاف. ربما لهذا السبب انتشرت صور ﻷطباء من داخل مصر وخارجها وهم يضعون أيديهم قي جيوبهم وانتشرت معها تعليقات ساخرة وتهكمية في أبلغ رد على ذلك المحافظ الذي يجهل العلاقة بين الطبيب وجيبه ورغم ذلك يتعنطز عليه ويأمره أنه يشيل أيده من جيبه بكل صلف وغرور.
ورغم عدم مرور أكثر من عدة أيام على تلك الزيارة الا أن صفحات التواصل الإجتماعي قد إمتلأت بتلك الصور لدرجة إن إحدى الصفحات التي دشنها عدد من شباب الأطباء للرد على المحافظ قد وصل أعضائها الى أكثر من 22 الفا في ظرف يومين فقط وتحظى بمعدل عالي من المتابعة والمشاهدة والانتشار وهي صفحة ( تحب أحطها فين ). وتطالب تلك الصفحة المحافظ بالاعتذار وكذلك تطالب الحكومة بإقالته كما تطالب بفصل سلطة التفتيش على المنشئات الطبية عن المحليات التي وصل الفساد فيها للركب كما وصفها سئ الذكر زكريا عزمي في عهد المخلوع مبارك.
ربما ستنجح تلك الصفحة أوغيرها في الحصول على إعتذار المحافظ أو إقالته وقد لا تنجح ولكن المهم أنها مثال واضح على قدرة أي فئة على التوحد والتضامن الإيجابي و على الرد القاسي والمؤلم على أي مسئول يتعمد إهانة أحد أفرادها وهو ما سيجعل أي مسئول يفكر الف مره قبل أن يقوم بتلك الجولات الإستعراضية لأنه سيخشى أن يطلب من الطبيب ساعتها أن يشيل أيده من جيبه فيرد عليه الطبيب قائلا ( تحب أحطها فين ).
Comments are closed.