نادرة هي المرات التي يُقدّر للمرء فيها أن يزور مدينة تأسر الألباب مثل برغن، ثاني أكبر مدن المملكة النرويجية. وعديدة ومتنوعة هي النشاطات التي يمكن له أن يقوم بها في برغن التي تحمل ألقاباً مختلفة من قبيل: «أنقى مدن العالم هواءً»، و«بوابة الفيوردز»، أو المضائق المائية، و«مدينة الجبال السبعة»، نسبة إلى الجبال التي تحيط بها من كل جانب.
تقع برغن على بحر الشمال غرب النرويج بين خليجين متفرعين من البحر. الأول هو «سون فيورد» في الناحية الشمالية من المدينة، وهو «الفيورد» الأشهر والأعمق، 1300 متر، والأطول في النرويج، بامتداده داخل اليابسة 180 كيلومتراً. أما الخليج الثاني، فيدعى «هاردانغر فيورد».
وتبلغ مساحة برغن 465.3 كيلومترا مربعا، ويبلغ عدد سكانها 269.700 نسمة. وتملك المدينة مطاراً دولياً حديثاً تحط به طائرات قادمة من وجهاتٍ شتى، خاصةً من لندن وأمستردام وكوبنهاغن وستوكهولم، في حين تبعد عن العاصمة أوسلو 478 كيلومتراً. ويوجد فيها عشرات أماكن المبيت التي تناسب مختلف المستويات، بدءاً من فنادق النجوم الخمس، مروراً بالشقق والمنازل المفروشة، وليس انتهاءً بالنُزل وبيوت الشباب. كما أن مستوى الجريمة منخفض إلى حدٍ بعيد، حيث تضج مطاعمها ومقاهيها وحاناتها بالحياة ليلاً، إنما بدون ضجيجٍ يذكر.
مركز المدينة
يحار الزائر للمدينة في اختيار الكيفية التي يمكن معها الانطلاق في رحلة استكشافها. ففي اللحظة التي تُفتح فيها بوابة الخروج من المطار، يشعر بأنه انتقل إلى عالمٍ آخر من الجمال تميزه طبيعة متفردة لا تشبهها نظيرتها في بقية بلدان أوروبا ومناطق كثيرة من العالم، وهدوء ملحوظ تلفه سكينة غريبة تغسل عنه متاعب السفر. تتلقف السائح حافلات مريحة أو سيارات أجرة تنقله إلى مركز المدينة، الذي تعد زيارته بحد ذاتها تجربة مثيرة.
ففيه يستطيع أن يتلمس عراقة ماضي حضارة «الفايكنغ» ممزوجة برقي الحاضر، في خلطة ساحرة لا مثيل لها، خاصةً أن بمقدور الزائر أن يستكشفه سيراً على الأقدام بسبب قرب معالمه من بعضها البعض.
يمكن البدء بالسير في شارع رصيف الميناء المكون من صفٍ من المباني الأثرية الملونة التي يعود تاريخ بنائها إلى مئات الأعوام، والتي لا يسمح بتغيير معالمها لكونها مدرجة على قائمة «اليونيسكو» للتراث العالمي. وتضم تلك المباني عدداً من المطاعم والمحلات التجارية، فضلاً عن متحف عمره أكثر من 300 عام يختص بالحقبة «الهانزية»، وهي رابطة نشأت بين القرنين الـ12 والـ17 ضمت العديد من المدن التجارية في منطقة بحر الشمال، ومن بينها برغن.
سوق السمك
ومن هناك، لا بد من التعريج على سوق السمك، وهو المكان الأكثر صخباً في مركز المدينة الهادئ بشكلٍ لا يعهده وسط أي مدينة أخرى، حيث يتسابق بائعو السمك في مباراة صياحٍ لجذب الزبائن وإغرائهم على شراء بضاعتهم الطازجة التي اصطادوها للتو من البحر، قبل أن تحاول طيور النورس، التي تحلق فوق المكان، سرقتها منهم. وبالإمكان أيضاً الجلوس والتمتع بمذاق «السلمون» اللذيذ مع كأسٍ من المياه الفوارة، على اعتبار أن النرويج مشهورة بثروتها السمكية وعذوبة مياهها، التي تشير الكثير من الدراسات إلى فوائدها الصحية الجمة.
تسوق وموسيقى
ولكي تكتمل الصورة، فإن ترك سوق السمك في الخلف والاتجاه نحو ساحاتٍ تضم نوافير وتماثيل ومنحوتات أخاذة، ستوفر للزائر فرصة التسوق والاختيار ما بين البضائع النرويجية، من ملابس شتوية وأطعمة تقليدية، والبضائع الفاخرة التي تحمل علاماتٍ تجاريةٍ عالميةٍ تناسب مختلف الأذواق. وقد لا يكون غريباً أن يصادف السائح فرقةً موسيقية جوالة تعزف في الشارع أو مجموعة تؤدي عروضاً مسرحية كوميدية أمام المارة، كله بغرض الترويح عن النفس وإضفاء جو من الحميمية على المدينة، التي يتوجب التنويه إلى أنها تشهد ظاهرة ما يعرف بـ«شمس منتصف الليل» في فصل الصيف المعتدلة حرارته، في وقتٍ تتميز بطقسها البارد جداً ونهارها المعتم شتاءً.
جولات ومواصلات
وبالطبع، فإن التعرف على برغن متاح عبر أكثر من وسيلة، منها الحافلات المكشوفة ذات الطابقين التي تجوب المدينة وتتوقف لبرهة عند كل معلمٍ مهم، مثل متحف التاريخ الطبيعي والحديقة المائية، مرفقة بوسائل ترجمة بلغات عديدة تشرح تاريخها وحاضرها، أو من خلال الجولات المصحوبة بمرشدين مختصين سيراً على الأقدام يأخذون ضيوفهم في رحلةٍ عبر الزمن تعرفهم على نمط حياة أولئك الذين كانوا من أوائل من عاشوا في برغن، فضلاً عن عربات سكة الحديد المعلقة. وتغطي حافلات النقل العام كافة أنحاء المدينة وضواحيها على مدار أكثر من 18 ساعة يومياً بمعدل حافلة كل ثلاث دقائق تقريباً، تضاف إلى شبكة «الترام»، التي تنتهي محطاتها عند مركز «لاغونن» التجاري، والذي يعد من أكبر مراكز التسوق في النرويج وشمال أوروبا باحتوائه على أكثر من 140 متجراً على مساحة 60 ألف متر مربع.
الجبال السبعة
كما بمقدور المرء أن يشاهد المدينة عبر إطلالة رائعة من جبل «فلوين»، وهو في الجهة الشمالية الشرقية لبرغن. ومن خلاله، يشق القطار طريقة متجهاً شمالاً إلى الأرياف والشلالات الهادرة. وإن لم يكتف بذلك، فما عليه سوى ركوب عربات «التلفريك» للصعود إلى جبل «أولريكن» الذي يبلغ علوه 643 متراً، وهو أعلى القمم الجبلية في برغن، حيث بمقدوره التنزه لمسافات طويلة من هناك صعوداً أو نزولاً من خلال السلالم التي أقيمت خصيصاً لهذا الغرض وسط الصخور والمنحدرات. أما الجبال الخمسة المتبقية التي تحيط ببرغن، فهي: «ليدرهورن» و«دامسغاردسفيليت» و«لوفستاكن» و«رونديمانن» و«ساندفيكفيليت».
المضائق المائية
ولعل السمة التي طبعت برغن أكثر، هي كونها البوابة الأكثر شعبية التي يرتادها السياح للوصول إلى المضائق المائية التي تعتبر النرويج موطنها الأصلي. وهناك جملة من الاختيارات للقيام بهذه الرحلة التي تنظمها شركة «فيورد تورز» في برغن. الخيار المفضل عند الزوار بلا منازع هو الحزمة المسماة «النرويج في قشرة جوز» المتوفرة على مدار السنة، حيث يستطيع المرء أن يسافر عبر البراري ليمتع ناظريه بالمناظر الخلابة، مختبراً ثلاث وسائل نقل مختلفة هي الحافلة والقطار والباخرة.
تبدأ الرحلة، التي تدوم يوماً أو أكثر حسب رغبة الزبون، بشكلٍ ثابت الساعة 8.40 صباحاً من محطة قطارات برغن باتجاه بلدة فوس في مشوارٍ يدوم قرابة ساعة وربع الساعة تنبهر فيه الحواس بالخضرة الندية والجبال والوديان والجداول والأنهار والشلالات، وأشهرها شلال «تفيندفوسن» الذي يبعد نحو 12 كيلومتراً عن فوس ويتساقط من على ارتفاع حوالي 150 متراً، ويقال إن لمياهه خواص منشطة جنسياً، حتى إن الكثيرين يعمدون إلى تعبئة دلاء منها.
ومن تلك البلدة، تغادر الحافلة إلى قرية «غودفانغن» عبر طريق «ستالهيم» وهو واحد من أكثر الطرق انحداراً وارتفاعاً في شمال أوروبا، لتستمر بذلك رفقة الجبال والوديان والشلالات المدهشة، ومنها «كيلفوسن»، المتساقط من ارتفاع 755 متراً، والمحتضن لتشكيلات جميلة من قوس قزح، ما يشكل فرصة مواتية لالتقاط الصور التذكارية.
وفي واقع الأمر، فإن كل ذلك ليس سوى مقبلاتٍ تسبق الوجبة الرئيسية، وهي الرحلة البحرية التي تدوم أقل بقليل من ساعتين ونصف الساعة وتمخر فيها الباخرة عباب المياه البلورية الصافية المحاطة بالجبال الخضراء والمنازل الملونة المتناثرة على الوديان كالزهور، فيما ترافق طيور النورس الركاب لتؤانسهم ويطعموها بدورهم، بينما يصافح النسيم العليل الوجوه، في لوحةٍ أبدع الخالق في رسمها.
تمر الباخرة بـ«آورلاندس فيورد»، وهو مضيق مائي طوله 29 كيلومتراً يتفرع عن «سون فيورد». وبعد 11 كيلومتراً، تمر بـ«نيرو فيورد»، المدرج على قائمة «اليونسكو» للتراث العالمي منذ العام 2005، لكونه لا يتجاوز عرضه 500 مترٍ في بعض الأجزاء.
قرية «فلام»
ترسو الباخرة في قرية «فلام» التي نالت حظوتها بفضل سكتها الحديدية التاريخية. وبعد التجول لساعةٍ في القرية وزيارة متحفها مجاناً والتبضع في محلاتها، يتحرك القطار القديم بلونه الأخضر، والذي يشعر معه راكبه وكأن الزمن عاد به إلى مئات الأعوام، في طريقٍ شديد الضيق لا يتعدى في بعض النقاط متراً ونصف المتر، ليمر عبر 10 محطاتٍ و20 نفقاً وجسرٍ واحد لمسافة 20 كيلومتراً، حتى يصل بعد ساعة إلى قرية «ميردال».
ولكن قبل الوصول إلى القرية، على السائح أن يتحضر للنزول من القطار لمقابلة الجنية!! تلك الجنية هي في الحقيقة طالبة في مدرسة باليه تظهر بين الفينة والأخرى مرتدية ثوباً أحمر، ترقص على وقع الأنغام الموسيقية أمام شلال «كيوسفوسن» الهادر، متقمصةً شخصية «هولدرا»، وهي امرأة في الأساطير الاسكندنافية تعيش في الغابات وتغري زوارها، قبل أن تختفي تاركةً وراءها ذكرى لا تمحى. ومن «ميردال»، يعود قطار برغن إلى المدينة، لتنتهي الرحلة بعد ساعتين ونصف الساعة، مسدلة الستار على مغامرة مشوقة تكاد تقارب الخيال.
ثقافة وفن
تشتهر برغن بحياتها الثقافية والفنية. ففيما اختيرت كعاصمة الثقافة الأوروبية العام 2000، فإنها تضم العديد من المتاحف والمسارح، وأحدها هو أول ما بني في النرويج، فضلاً عن واحدة من أقدم فرق الأوركسترا في العالم.
برغن والعرب
تقول منسقة التسويق في مجلس سياحة برغن لين فالكينبرغ إن المجلس يتعاون مع الشركة الحكومية الكبيرة «إنوفيشن نورغ» والتي تهتم بالتسويق للسياحة في البلاد. وتشير إلى أن الشركة تملك مكاتب عديدة في دول العالم، وقد تفكر في المستقبل بفتح فروع في المنطقة العربية، موضحةً أنه بالإمكان للعائلات العربية على سبيل المثال أن ترتب رحلات خاصة إلى المضائق المائية بمساعدة مجلس السياحة. كما لفتت إلى أن السياح الألمان والبريطانيين وأولئك الآتين من شرق آسيا والقارة الأميركية يشكلون النسبة الأكبر من الزوار.
Comments are closed.